بقلم: الدكتورة هويدا عزت
كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة
أسعى من خلال هذه المقالة إلى تسليط الضوء على ما يتعرض له العاملون، من ضغوط وممارسات قد تفتقر إلى العدالة، وتؤثر على بيئة العمل وجودتها، مما يستدعي منا فهمها ومواجهتها بوعي واحترافية. فالتمييز ليس مجرد مشكلة إدارية، بل تحدي يمس الروح المعنوية ويعرقل النمو المؤسسي.
في بيئة العمل، لا يكفي أن يكون الموظف كفؤًا أو ملتزمًا فقط، بل يحتاج إلى مُناخ مهني عادل يشعر فيه بالتقدير والمساواة. ولكن حين تتسلل الممارسات التمييزية بين العاملين، يتآكل هذا الإحساس، وتبدأ بيئة العمل بفقدان روحها، متجهة نحو ما يُعرف بـ”البيئة السامة”. فكيف يؤثر التمييز في بيئة العمل؟ ولماذا يُعدّ أحد أكثر العوامل فتكًا بالأداء الجماعي والمعنويات الفردية؟
التمييز في بيئة العمل لا يقتصر على الأفعال المباشرة، بل يظهر أحيانًا بطرق غير معلنة، مثلًا، عندما تُمنح المكافآت لفئة معينة باستمرار دون معايير واضحة، أو تُتاح الدورات التدريبية وفرص التطويرية فقط للمقربين من الإدارة، كما أن مشاركة المعلومات المهمة مع فئة محددة من الموظفين تعد أحد أشكال التحيّز التي تعرقل الشفافية والعمل الجماعي، ويتعدى التمييز هذه المظاهر ليشمل توزيع المهام، إذ قد يتم بناءً على الأهواء الشخصية للمدير لا على أسس موضوعية.
هذه الممارسات تولّد شعورًا بالظلم وتُفقد الموظفين الثقة في مؤسستهم. سرعان ما يتحول الإحباط إلى فتور في الأداء، وتبدأ الغيرة والحسد في الانتشار، ما ينعكس على العلاقات بين الزملاء. بيئة كهذه تُضعف الانتماء وتجعل الموظف يبحث عن فرص أكثر عدلًا، وقد يقرر الرحيل رغم التزامه أو تعلقه بالعمل.
التمييز لا يضر الأفراد فحسب، بل يمتد أثره إلى المؤسسة نفسها؛ فالموظفون غير الراضين يُساهمون في تراجع الأداء العام، وتزداد معدلات الدوران الوظيفي، وتضعف السمعة المؤسسية؛ فالمؤسسات التي تُهمل بناء بيئة عادلة تخسر أهم ما تملك من كوادرها المؤهلة.
وقد أشارت دراسات مُتعددة إلى أن التمييز في بيئة العمل يُعد من العوامل الأساسية في توليد ما يُعرف بالإجهاد التنظيمي (Organizational Stress)، والذي يؤدي بدوره إلى تدهور الرضا الوظيفي، وتراجع الأداء، وزيادة نية ترك العمل لدى الموظفين، وفي أحد الدراسات علمية، تبين أن غياب العدالة التنظيمية يؤدي إلى انخفاض الثقة في الإدارة وارتفاع معدلات التوتر، مما ينعكس سلبًا على إنتاجية فريقالعمل.
وتؤكد أدبيات السلوك التنظيمي كذلك أن الإدراك بالتمييز سواء كان مباشرًا أو ضمنيًا يُعد تهديدًا خطيرًا لتماسك فريق العمل، حيث أن العدالة التنظيمية لا تتعلق فقط بنتائج القرارات، بل بكيفية اتخاذ هذه القرارات وتفسيرها، وأن غياب الشفافية في توزيع الموارد والفرص يخلق بيئة مليئة بالريبة والانقسام.
وفي السياق نفسه، تطرقت دراسة حديثة نُشرت في مجلة “Academy of Management Journal” إلى آثار التمييز على التنوع داخل المؤسسات، مشيرة إلى أن غياب بيئة عادلة وشاملة لا يعيق فقط مشاركة الأفراد، بل يُضعف الابتكار، وأوضحت أن الإبداع المؤسسي يرتكز على عنصرين أساسيين هما: الشعور بالأمان النفسي والانتماء، وهما عنصران يتآكلان في البيئات التي يسودها التحيز والتفرقة.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد أظهرت العديد من الدراسات أيضًا أن بيئات العمل التي يشعر فيها موظفوها بالعدالة والمساواة تحقق أرباحًا أعلى مقارنة بنظيراتها التي تعاني من ضعف في ممارسات العدالة الداخلية، ويرجع ذلك إلى ارتفاع مستويات الالتزام الوظيفي والانخراط في العمل، وانخفاض معدلات الغياب والدوران الوظيفي.
ولهذا، فإننا بحاجة إلى تعزيز ثقافة عمل قائمة على الشفافية والتمكين، تضمن للجميع مساحة عادلة للتعبير، والتطوير، والمساهمة بفاعلية، إن بناء بيئة عمل صحية لا يتحقق بمجرد سن اللوائح والسياسات، بل من خلال العدالة في التطبيق، والشفافية في القرارات، والتقدير المنصف للجميع.
إن المؤسسات التي تُهمل معالجة التمييز في ممارساتها الإدارية، لا تُعرض موظفيها فقط للإحباط المهني، بل تضعف من قدرتها على التطور والابتكار والمنافسة. ولهذا، فإن بناء بيئة مهنية عادلة يتطلب وعيًا مؤسسيًا ومساءلة فعلية، لا تكتفي بصياغة السياسات على الورق، بل تعمل على ترجمتها إلى واقع يومي يلمسه كل فرد داخل بيئة العمل.
ويُمكن للمؤسسات اتخاذ خُطوات عملية ملموسة في هذا الاتجاه، منها: وضع آليات شفافة وواضحة لتوزيع المهام والمكافآت، تستند إلى الأداء الفعلي لا العلاقات الشخصية، إجراء مراجعات دورية للعدالة التنظيمية، من خلال استبيانات تقيس مدى شعور الموظفين بالمساواة، بالإضافة إلى تدريب القادة والمديرين على مبادئ القيادة العادلة وغير التمييزية، مع تضمين هذه المعايير في تقييم أدائهم القيادي، وإتاحة فرص التطوير والتدريب لجميع الموظفين بناءً على احتياجاتهم المهنية، لا وفقًا لموقعهم من الإدارة.
هذا بجانب إنشاء قنوات آمنة وموثوقة لتلقي ومتابعة شكاوى التمييز والتحيز؛ فالعدالة ليست مجرد ترف تنظيمي، بل هي ضرورة إستراتيجية للحفاظ على الكفاءات، ورفع مستوى الأداء المؤسسي؛ فالمساواة ليست شعارًا يُرفع، بل ممارسة يومية تتجسد في كل قرار وإجراء إداري، وعندما يشعر الموظف بالإنصاف والتقدير، يزيد إنتاجه، وتنمو المؤسسة وتزدهر. وعلى النقيض، فإن التمييز، مهما بدا بسيطًا، قد يكون الشرارة الأولى التي تُشعل فتيل انهيار الثقة، وهو أمر يصعب استعادتها.