بقلم أشرف جابر*
في صباح الخميس 29 مايو 2025، كنت واحدًا من بين عشرات الصحفيين والباحثين المصريين والإيطاليين، المدعوين إلى قاعة المؤتمرات بالمتحف المصري في ميدان التحرير، حيث انعقد المؤتمر الصحفي للإعلان عن تفاصيل معرض “كنوز الفراعنة” أو Treasures of the Pharaohs والمقرر إقامته في روما، الفترة من 24 أكتوبر 2025. وحتى 3 مايو 2026 وهو المعرض الأول من نوعه والذي يعد تتويجاً للعلاقات الثقافية والحضارية بين مصر وإيطاليا، ويعول كثيراً على نجاحه في تحقيق نقلات نوعية في حركة السياحة لمصر وبطبيعة الحال التعريف بكنوز مصر القديمة.

المكان كان أشبه بحصن أثري؛ نقاط تفتيش قوية ومتعددة قبل الوصول إلى البوابة الرئيسية، أجهزة كشف المعادن، كاميرات مراقبة تغطي كل زاوية، واجراءات دقيقة لا تسمح لك بخطوة واحدة خارج المسار المرسوم. حتى داخل القاعات، كان أفراد الأمن ينتشرون بزي رسمي ومدني، يراقبون الحضور والقطع الأثرية بعين لا ترمش.
استمعت باهتمام للمتحدثين وأبرزهم رئيس المجلس الأعلى للآثار المصرية وسفير إيطاليا بالقاهرة، وممثلي العديد من الهيئات والمؤسسات الإيطالية، حيث كانت الاحتفالية أشبه بإعلان طموح عن “جسر ثقافي جديد” و”رحلة استثنائية من قلب القاهرة إلى قلب روما”.
تنبؤات مبكرة خلال المؤتمر الصحفي!
أثناء المؤتمر الصحفي (الذي تأخر عن موعده قرابة الساعتين بسبب تأخر وصول المسؤولين المصريين) وجهت سؤال للسفير الإيطالي حول “الدبلوماسية الثقافية” وكان سؤالي لرئيس المجلس الإعلى للآثار عن سبب عدم مشاركة أي جهة مصرية في المعرض باستثناء المجلس، بينما تشارك ستة جهات إيطالية وربما سبعة، وذكرت له اسم “الأكاديمية المصرية في روما” على سبيل المثال، حينها كانت إجابته مدهشة بالنسبة لي حيث قال: لم يتقدم أحد بطلب للمشاركة! اقتضبت ولم أشأ فتح نقاش سلبي أمام الأجانب، لكن كررت السؤال على سيادته بعد انتهاء المؤتمر الصحفي بينما كنا نلتقط بعض الصور، فأجاب: لابد من وجود رعاة، كل الجهات الإيطالية دافعة!
لكن الأغرب من إجابة رئيس المجلس الأعلى للآثار، أن معظم أسئلة الصحفيين كانت حول إجراءات تأمين القطع الأثرية، والضمانات لعدم تعرضها للخطر خلال تلك الرحلة، بل إن أحد الأسئلة كان حول ندرة القطع المسافرة، ويومها قال رئيس المجلس الأعلى للآثار أو ربما مسؤول آخر من المجلس، لاتوجد قطع نادرة، وجميع القطع المسافرة هي جزء من مجموعة.. ولم يخطر ببال أحد أن سرقة أو اختفاء أهم قطعة مسافرة، ستكون في القاهرة وفي مكانها قبل أن تتحرك!
سرقة يصعب تخيلها، لكنها تتكرر!
في نفس المبنى الذي بدا يومها عصيًّا على أي اختراق، اختفت سوار الملك بسوسنس الأول (حكم حوالي 1047–1001 ق.م)، إحدى القطع الأيقونية التي كانت ضمن قائمة المعروضات المقرر سفرها إلى إيطاليا. كيف يمكن لقطعة بهذا الحجم من الأهمية، وفي ظل هذه التحصينات الأمنية، أن تتبخر من قلب المتحف؟ سؤال يفتح الباب أمام عشرات علامات الاستفهام، ويحوّل مشهد الفخر الوطني في ذلك اليوم إلى لغز ثقيل.
والسوار كانت ضمن القطع المركزية التي ستتصدر الحملات الدعائية في إيطاليا، ما يجعل اختفاءها ضربة موجعة لصورة المعرض وللدبلوماسية الثقافية المصرية.
ثلاث احتمالات لسيناريو الجريمة
كيف تُسرق أو تختفي قطعة كهذه من المتحف المصري؟ هل حدث اختراق داخلي، موظف أو شخص لديه تصريح دخول للمخازن أو قاعات التحضير للمعرض، استغل الثقة والنظام الروتيني. هذا السيناريو تدعمه حقيقة أن القطعة كانت في مرحلة “التغليف والنقل”، وهي (ربما) لحظة ضعف أمني نسبي.
هل حدث تلاعب أثناء النقل الداخلي! أثناء نقل القطعة من قاعة العرض إلى منطقة التخزين المؤقت أو العكس، أم أن هناك عملية معقدة، جرى تنظيمها بغطاء خارجي في عملية تشبه سرقات المتاحف العالمية الكبرى!
سجل السرقات: تحذيرات من الماضي
هذه ليست المرة الأولى التي تفقد فيها مصر قطعة أثرية نادرة، فقد سُرق تمثال توت عنخ آمون أثناء أحداث 2011 من نفس المتحف المصري، ثم استعيد لاحقًا. كما تعرض متحف ملوي للسرقة عام 2013 وضاعت 1040 قطعة، بينها تماثيل وعملات نادرة. وأيضاً متحف الفن الإسلامي عام 2014 حيث فقدنا 7 قطع فريدة بعد انفجار أمام المتحف. هذا غير تهريب قطع إلى متحفي اللوفر أبوظبي ومتروبوليتان عبر شبكات دولية بشهادات منشأ مزورة!
كل هذه الحوادث تكشف أن الخطر ليس في اللصوص، بقدر ماهو في ثغرات المنظومة.
ما بعد الصدمة
إن اختفاء سوار الملك بسونس الأول ليس حادثًا عابرًا يمكن تجاوزه ببيان أو وعود بالبحث، بل هو زلزال ثقافي وأمني يضرب في عمق الثقة بقدرتنا على حماية إرثنا الذي لا يقدّر بثمن. هذه الجريمة، بما تحمله من جرأة وتحدٍّ، تفرض على السلطات أن تتحرك بأقصى سرعة وبأعلى درجات الجدية، لاستعادة القطعة قبل أن تتبخر في دهاليز السوق السوداء، ومعالجة كل ثغرة أمنية مهما كانت صغيرة.
ومن جانب آخر فإن معرض “كنوز الفراعنة” في روما يجب أن يُقام في موعده، لا كحدث ثقافي فحسب، بل كإعلان صريح أن مصر قادرة على حماية تراثها وتقديمه للعالم بثقة وكرامة. أي تأجيل أو إلغاء سيكون مغامرة غير محسوبة بسمعة مصر الدولية، وسيمنح خصومها مادة جاهزة للتشكيك في مؤسساتها.
كما أن حماية السمعة لا تكتمل دون محاسبة حقيقية. فالمسؤولية لا تقع على لصوص الظل وحدهم، بل على كل من سمح بوجود ثغرات أمنية بهذا الحجم، مهما علت مناصبهم. إن صيانة التراث ليست مهمة موظفين صغار، بل التزام دولة، ومن يفرّط فيه يجب أن يواجه العواقب كاملة.
التاريخ لا يرحم، والذاكرة الوطنية لا تُشترى ولا تُعوّض. إما أن نستعيد السوار ونغلق أبواب الإهمال إلى الأبد، أو نترك الباب مفتوحًا لسرقات قادمة، وحينها، لن يكون ما نعرضه للعالم سوى صور لما كان يومًا ملكاً لنا.
أشرف جابر: الكاتب الصحفي ورئيس التحرير
agaber@live.com