بقلم أشرف جابر*
في زمنٍ ترصد فيه الكاميرات كل لفتة وحركة، وتُحلّ الجرائم عبر خيوط رقمية دقيقة، جاءت وفاة الدكتور أحمد الدجوي لتكسر هذا النمط وتفتح باباً واسعاً للغموض. شاب في مقتبل العمر، رجل أعمال مثقف، أنيق، يتولى مسؤوليات قيادية في الجامعة المملوكة لجدته، ولم يُعرف عنه أي اضطرابات نفسية أو مؤشرات على رغبة في إنهاء حياته، حسب تأكيدات أسرته المقربة. ومع ذلك، وُجد جثمانه داخل فيلته بمدينة 6 أكتوبر، جالساً، والسلاح الناري إلى يساره، رغم أنه أيمن اليد. لا شهود، لا تسجيلات، لا آثار مقاومة واضحة، ولا حتى رسالة وداع.
صدر تقرير الطب الشرعي الرسمي ليفيد بأن الوفاة ناتجة عن انتحار، فتم التصريح بالدفن، وأُغلق الملف رسمياً. لكن القصة لم تُغلق في وجدان أسرته، ولا في ضمير الرأي العام (الذي يبدو متعاطفاً مع جانب كبير من سردية القتل).

أسرة أحمد، وعلى رأسها ابنته نوال وزوجته ووالدته وشقيقه عمرو الدجوي، رفضت الرواية الرسمية، وأحضرت خبراء مستقلين في الطب الشرعي، أبرزهم الدكتورة منى الجوهري، أستاذة ورئيسة قسم الطب الشرعي بجامعة طنطا سابقاً، والتي أعدت تقريراً مفصلاً من خلال مركز استشاري فني للطب الشرعي، نفت تفاصيله فرضية الانتحار.
التقرير المستقل أشار إلى أن آثار البارود كانت أكثر كثافة على اليد اليسرى، غير المسيطرة، وأن فتحة دخول المقذوف من داخل الفم لا تحمل علامات التلامس المباشر مع فوهة السلاح، كما هو معتاد في حالات الانتحار. بل إن مسار الطلقة، وخلو اليد اليمنى من آثار دموية، كلها مؤشرات على تدخل طرف آخر. بل وُجدت أنسجة بشرية وفروة رأس ملتصقة بسقف الغرفة، وكسر في زجاج خزانة الأحذية، مما يعزز فرضية وجود مقاومة أو سيناريو مختلف تماماً (وفق التقرير).
لكن الأجهزة الأمنية رفضت التقرير المستقل، واعتبرته غير رسمي، اعتماداً على أن المركز الذي أصدره غير مرخص، وأن الطبيبة التي أعدته محالة للمعاش، وتعمل بمقابل مالي بناءً على طلب أحد أفراد الأسرة.
وزارة الداخلية لم تناقش أو تحقق في مدى صحة المعلومات الواردة بهذا التقرير. وهنا تبدأ المعضلة الأخلاقية والقانونية: هل يُرفض تقرير فني فقط لأنه صادر من جهة غير رسمية؟ وهل يُغلق باب الحقيقة لأن من طرقه لا يحمل ختم الدولة؟
الملف يزداد تعقيداً حين نربط واقعة الوفاة بملف آخر لا يقل غموضاً: قضية الميراث والسرقة من فيلا السيدة نوال الدجوي، جدة أحمد. السيدة نوال اتهمت بعض أحفادها (وبينهم أحمد) بسرقة مبالغ ضخمة ومجوهرات من فيلا مهجورة، ثم سحبت الاتهام فجأة، دون أن ترصد الكاميرات شيئاً، ودون أن يُعثر على دليل مادي.
لماذا اتهمت ثم تراجعت؟ هل كانت هناك ضغوط؟ هل كانت تلك الواقعة تمهيداً لصراع أكبر؟ وهل يمكن أن يكون لذلك كله علاقة بوفاة أحمد؟! وهل هناك طرف ثالث أو رابع ربما يقف خلف كل تلك المأساة، ويجلس مبتسماً الآن بينما يرى الجميع يتبادل الشك والاتهام المكتوم!
إننا أمام سلسلة مترابطة من الأحداث، لا يمكن فصلها عن بعضها البعض. قضية الميراث، صراع عائلي ممتد لسنوات، واقعة السرقة، ثم الوفاة الغامضة، كلها خيوط في نسيج واحد. ومن الحكمة أن تُحقق فيها الجهات المعنية كملفات يكمل أحدها الآخر.
المطلوب الآن، وبإلحاح، فتح تحقيق شامل، يضم كل هذه الوقائع في ملف واحد، ويُعاد فيه فحص الأدلة الجنائية، وتُستدعى كل الأطراف، بما فيهم أصحاب التقارير المستقلة، ولو بصفة “شهود فنيين”.
الطب الشرعي ليس مجرد تقرير، بل هو صوت الجثة حين لا يتكلم أحد. وإذا تم التلاعب في هذا الصوت، أو تجاهله أو عدم الإصغاء له بالاهتمام الكافي، فإن جودة اتصال العدالة بهذا الصوت قد تكون مشوشة.
ماهي الحكمة أو الميزة في غلق ملف وفاة أحمد الدجوي بهذه السرعة، وأن يُحرم أهله من حقهم في معرفة الحقيقة والاطمئنان والتسليم بأن ماتقدمه السلطات هو تماما عين الحقيقة؟! فالحقيقة ليست ملكاً لجهة، بل هي حق عام، وواجب وطني.
أشرف جابر
الكاتب الصحفي ورئيس التحرير
agaber@live.com
www.ashrafgaber.com