بقلم: أشرف جابر*
تعلمنا من التاريخ القريب والبعيد أن الجرائم الأثرية، نادراً ما تكون “تصرفات فردية” أو مغامرات يقوم بها صغار الموظفين. هناك دائمًا شبكات منظمة، وسماسرة، وحيتان آثار يعرفون كيف يخفون القطع أو يهرّبونها للخارج. حتى وإن بدى الأمر أبسط من ذلك!
وفي مهزلة سرقة المتحف المصري، هل كان السوار معدًا للتهريب وفشلت الخطة؟ أم أن التهريب تم بالفعل، وما نسمعه الآن مجرد “قصة بديلة” لإغلاق الملف؟
هذه الأسئلة ليست ترفًا صحفيًا، بل ضرورة وطنية، لأن الاكتفاء بالرواية (التي تعرضت للتشريح من جانب المجتمع) دون فحصها بعمق وعناية، يعني أننا نغض الطرف، وأننا موافقون على ترك الباب مفتوحا لجرائم أكبر.
صمت يساوي إدانة
الصدمة في الفتور الرسمي لوزارة السياحة ومجلسها الأعلى للآثار، لا يقل عن الصدمة في سرقة إسورة ملكية من آثار مصر القديمة! فقبل الإعلان عن ضبط المتهمين (صبيان المعلم)؛ كان الصمت هو اللغة المعتمدة لدى وزارة السياحة والآثار والمجلس الأعلى للآثار حيث اكتفيا بالمراقبة، وكأن فقدان قطعة ملكية لا يساوي شيئًا أمام الرأي العام.
فلم يصدر بيان عاجل، ولم تُعقد مؤتمرات صحفية، ولم تُقدِّم رواية أولية. الأمر بدى وكأن أداء الوزارة يقول: مافيش مشكلة ( حتى لو ضاعت، عندنا منها كتير)!
وحتى الصورة الوحيدة التي ظهرت للسوار كانت باهتة، وكأنها انعكاس لبَهَتان منظومة إدارة وحماية التراث المصري! هذا الصمت لم يكن حياداً، بل كان إدانةً ضمنية وغياباً للشفافية.
وحتى بعد أن نشرت وزارة الداخلية بيانها واعترافات المتهمين (الأوليين)، لم تعلق “السياحة والآثار” ولم تعلن مسؤوليتها وتقصيرها، ولم يعلن أحد استقالته، واستعداده للمواجهة القانونية!
الرواية الرسمية.. وأسئلة بلا إجابات
وزارة الداخلية أعلنت القبض على مرممة آثار وشركائها، وقدمت القصة (مدعومة بفيديو) كما يلي:
المرممة استولت على السوار من داخل معمل الترميم (كيف؟ لم يذكر إعلان الداخلية)، سلمته لشخص وسيط، الذي باعه في منطقة الصاغة بمبلغ 180 ألف جنيه. وفي الصاغة، صُهر السوار وكأنه “غويشة مكسورة”!
حلقة صغيرة في جريمة أكبر!
ما الضمان أن هذه هي القطعة الوحيدة التي استولت عليها تلك السيدة؟ من يراجع سجلات القطع التي مرت على يدها أو على يد فريقها؟ ومن يضمن أن هناك عشرات القطع الأخرى لم تختفِ بهدوء، دون أن يلاحظ أحد؟
هل هناك مراجعة دورية جادة، هل يوجد أرشيف رقمي شامل؟ غياب أو ضعف أو شكلية ذلك، يجعل من السهل أن تضيع قطع أخرى دون أن نعرف.
المخازن.. كنوز في الظل
لدينا مئات الآلاف وربما الملايين من القطع الأثرية المكتشفة، لكنها لم تُعرض بعد، وتقبع في مخازن تابعة للمجلس الأعلى للآثار. هل تحظى هذه المخازن بأعلى معايير التأمين، وبعضها في مناطق نائية أو مبانٍ قديمة.
من يحمي هذه الكنوز من مافيا الآثار؟ كيف يتم توثيقها؟ وهل هناك نظام تتبع رقمي يضمن أن أي قطعة لا يمكن أن تختفي دون أثر؟
غياب الشفافية حول أوضاع هذه المخازن قد يجعلها الحلقة الأضعف في منظومة حماية التراث المصري.
الاكتفاء بالمرممة، إهانة للعقل
حصر المساءلة في موظفة واحدة هو إهانة للعقل. الإهمال المؤسسي، ضعف الرقابة، غياب التكنولوجيا الأمنية، كلها مسؤوليات تقع على عاتق قيادات المجلس الأعلى للآثار ووزارة السياحة والآثار.
المحاسبة الحقيقية يجب أن تصل إلى أعلى المستويات، وإلا سنظل أسرى دائرة “كبش الفداء” الذي يضحي به الفاسدون الكبار ليحموا أنفسهم.
نقل القطع.. موسم الخطر
نحن على أعتاب افتتاح المتحف المصري الكبير، وهو حدث تاريخي يتطلب نقل مئات القطع الأثرية من مواقع ومخازن مختلفة.
لكن، كل عملية نقل هي فرصة ذهبية للسرقة أو الاستبدال إذا لم تكن هناك إجراءات صارمة، مثل، مراقبة مصورة، مرافقة أمنية مسلحة، توثيق رقمي لحظة بلحظة، وإشراف لجان متعددة من خبراء مستقلين.
والسؤال: هل هذه الإجراءات مطبقة بالفعل.. أم أن وزارة السياحة والآثار ومجلسها، يكتفيان بالتصريحات المطمئنة؟
الميزانيات.. عصب الحماية
لا يمكن أن نحمي كنوزنا بميزانيات هزيلة ورواتب متدنية للعاملين عليها.
كيف نطالب موظفًا في المتحف أو المخزن أن يكون حارسًا أمينًا على قطعة تساوي ملايين الدولارات ولا يخضع لإغراءات المافيا، بينما راتبه لا يكفيه أسبوعين؟
رفع رواتب العاملين، وتوفير حوافز مرتبطة بالأداء والنزاهة، ليس رفاهية، بل خط دفاع أول ضد الفساد.
فرصة روما.. رسالة للعالم
معرض Treasures of the Pharaohs المقرر إطلاقه الشهر القادم في روما يجب أن يتم في موعده، بل وبقوة أكبر مما هو مخطط له.
يجب أن نستثمره لتأكيد أن كل قطعة أثرية مصرية ليست مجرد “ذهب” أو “حجر”، بل جزء من هوية أمة.
هذا المعرض يمكن أن يكون منصة لإعادة بناء الثقة، إذا تم تقديمه بروح الدفاع عن التراث لا مجرد الترويج السياحي.
استراتيجية إنقاذ التراث: من رد الفعل إلى المبادرة
مصر لا يمكنها أن تظل رهينة لأسلوب “التحرك بعد الكارثة”. نحن بحاجة إلى خطة وطنية شاملة لحماية التراث، تتضمن:
تشريعات رادعة:
- اعتبار جرائم سرقة أو تهريب الآثار في مرتبة الخيانة العظمى.
- عقوبات تصل إلى المؤبد أو الإعدام، مع مصادرة كل ممتلكات المتورطين.
تكنولوجيا حماية متكاملة:
- أنظمة تتبع RFID لكل قطعة أثرية.
- كاميرات عالية الدقة في كل غرفة وممر.
- أرشفة رقمية ثلاثية الأبعاد لكل أثر.
إصلاح إداري جذري:
- إعادة هيكلة إدارات المتاحف والترميم.
- تدوير الموظفين لمنع تكوين شبكات مصالح.
- مراجعة دورية مفاجئة للمخازن والمعامل.
تربية ووعي مجتمعي:
- التعليم: مناهج عن قيمة التراث في المدارس والجامعات.
- الإعلام: إنتاج برامج وأفلام وثائقية تزرع الفخر بالآثار وتكشف جرائم تهريبها.
- المؤسسات الدينية: خطاب يربط حماية التراث بالأمانة والهوية الوطنية وصلاح العقيدة.
شراكات دولية:
- التعاون الجاد مع الإنتربول ومنظمات حماية التراث.
- تتبع الأسواق السوداء واستعادة القطع المهربة.
ألا أونا.. ألا دوي!
أخيراً، فإن سرقة السوار الذي لم تكلف الوزارة ولا مجلسها عناء الكشف عن قيمته التاريخية ولا نسبه بدقه حتى لحظة كتابة هذه المقال، ليست حادثة عابرة، بل جرس إنذار مدوٍ. إذا لم نتحرك الآن، فسنستيقظ يومًا لنجد المتاحف خاوية، تاريخنا يُباع (علناً) في مزادات العالم قطعة قطعة.
أشرف جابر
الكاتب الصحفي ورئيس التحرير
agaber@live.com
www.ashrafgaber.com