بقلم أشرف جابر*
تقدم مصر نفسها منذ عقد من الزمان، وبخاصة في السنوات الأخيرة كـ نموذج لدولة ناضجة، تعرف متى تتكلم، ومتى تصمت، ومتى تتحرك بخطوات محسوبة. في زمن تتسابق فيه بعض الدول على المزايدة، اختارت القاهرة أن تبني سرديتها على العقلانية والاتزان، وعلى الحق، لتصبح صوتًا إقليميًا يحظى بالاحترام، وفاعلاً دولياً لا يمكن تجاوزه.
هذا النضج لم يظهر في ملف واحد، بل في سلسلة من المواقف التي كشفت عن وعي استراتيجي متكامل: من رفضها القاطع لخطط التهجير القسري للفلسطينيين وتحذيرها العلني للعواصم الأوروبية من مغبة الانخراط في هذه السياسات، إلى إدارتها الذكية لمحاولات توريطها في حرب مباشرة، مرورًا بتفنيدها للأكاذيب حول معبر رفح، الذي ظل شاهدًا على التزام مصر بالبعد الإنساني بعيدًا عن الابتزاز السياسي.
وما يجري اليوم في شرم الشيخ والاتفاقات لوقف الحرب، لم يكن ليحدث لولا مصر وموقف مصر، الجميع كان جاهز لقبول خطة التهجير، والجميع كانت له حساباته الخاصة.. مصر وحدها قالت (لن نسمح) في مواجهة مدينة ترامب الترفيهية على شواطئ غزة وعلى جثث أهلها! وكان يجري توزيع سكانها على الورق هنا وهناك!
وفي موازاة هذه المواقف الخارجية، وبالرغم من الأزمات الكبيرة في المنطقة، لم تتوقف الدولة عن المضي في مشروعها التنموي الكبير، الذي تجسّد مؤخرًا في “السردية الوطنية” كإعلان مصري مباشر: “قوتنا في الداخل هي ما يمنحنا القدرة على التأثير في الخارج.”
السياسة الخارجية: مواقف واضحة وقرارات رصينة
رفضت مصر بشكل قاطع خطط تهجير الفلسطينيين، وقدمت تحذيرات مباشرة للعواصم الأوروبية (بلغة تقترب من التهديد) من مغبة دعم هذه السياسات.
وتعاملت باتزان كامل مع محاولات توريطها في حرب مباشرة، متمسكة بدورها كقائد يصل بالأزمة لشاطئ آمن دون أن تدخل كطرف في الصراع. وفي هذا المسار، واجهت مصر الأكاذيب الجاهلة حول إغلاق معبر رفح، والذي كانت تقوده اسرائيل وجماعة الإخوان وأبواقها في الداخل والخارج.
كما أدارت الخطاب العربي بوعي، بعيدًا عن المزايدات والشعارات، التي ازدهرت طوال الأزمة دون فعل حقيقي من أصحاب الحناجر العالية الصاخبة، الأمر الذي عزز صورة مصر كدولة مسؤولة.
صناعة رأي عام دولي
قادت مصر تحركات دبلوماسية نشطة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، بل وفي محكمة العدل، لدعم القضية الفلسطينية، وبناء تحالفات دولية متوازنة، ضد سياسات التهجير، وإعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وظهرت مصر كصوت عاقل ومسؤول وقوي وحازم وموثوق، في منطقة اعتادت على الانفعال والمواقف الملتبسة!
التنمية الشاملة – سردية مصر الوطنية
قبل أسابيع، أعلنت الحكومة المصرية على لسان رانيا المشاط وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية؛ مواصلة المشروعات القومية الكبرى رغم التحديات الإقليمية، وأطلقت “السردية الوطنية” كإطار جامع يربط بين التنمية الشاملة والهوية الوطنية. وهو ما حمل تأكيد بأن مصر لن تسمح للأزمات الخارجية أن تعطل مسارها الداخلي، بل أنها توظف قوتها الداخلية لتعزيز مكانتها الخارجية.
إن أداء مصر القوي والمتزن طوال السنوات الأخيرة كشف عن نضج كبير في إدارة الأزمات، وهو مايشي بتحوّل هذا النضج إلى هوية راسخة تعيد صياغة دور مصر في الإقليم والعالم. حيث باتت مصر مرشحة لتكون صانعة للتوازنات، لا مجرد طرف متأثر بها.
ومصر بجهد مرتقب لاستعادتها لبريق قوتها الناعمة، في الثقافة والإعلام والدبلوماسية الشعبية، وبالانتقال من البنية التحتية إلى مشروعات التصدير العملاقة، وانتاج الطاقة والاقتصاد الرقمي.
سوف تتمكن من تحويل سرديتها من توصيف تحليلي إلى علامة سياسية واقتصادية معترف بها ومؤثرة عالميً، والأهم، انعكاسها المرتقب على جودة الحياة في مصر وفي مركز ارتفاع مستوى المعيشة للمصريين
براندنج قابل للتصدير!
إن ما يميز التجربة المصرية في السنوات الأخيرة ليس مجرد مواقف سياسية عابرة أو مشروعات تنموية ضخمة، بل قدرتها على الجمع بين الاثنين في عبارة واحدة وفي موقف واحد، تعكس نضج الدولة واستقرارها.
هذا التوازن بين الصلابة في الخارج والاستمرارية في الداخل هو ما يجعل مصر اليوم نموذجًا لدولة ناضجة، لا تُدار بالانفعال ولا تُستدرج إلى الفوضى، بل تؤكد تعريف دورها كقوة إقليمية مسؤولة وصانعة للتوازن، خاصة في محيطيها العربي والأفريقي. النضج ليس محطة تصل إليها الدول، بل مسار طويل من الاختبارات والاختيارات والقرارات. ومصر اليوم لا تكتفي بعبور هذا المسار، بل تُعيد رسمه لتقدمه للعالم كنموذج يُحتذى به.