بقلم أشرف جابر*
كثيراً ما نحتفي بالبدايات، نلتقط الصور، نكتب العهود، نروي القصص ونكتب الأشعار عن اللحظة الأولى. لكن ماذا عن السطور الأخيرة من القصة! عن تلك اللحظة التي يقرر أو يضطر فيها طرفان أن يطويا صفحة، أو أن ينهيا شراكة، أو أن يتركا مقعدًا كان يجمعهما؟
“حلاوة النهايات” ليست تعبيرًا شاعريًا فحسب، بل هي مهارة اجتماعية ونفسية، قد تحدد شكل حياتنا بعد الانفصال أو التغيير.
البدايات الحلوة، والوعد الذي لا يكتمل
حياتك أغلى من أن تحبسها أسيرة بداية واحدة، فالبدايات المشرقة حقيقة لا يمكن إنكارها. سواء كانت علاقة عاطفية، شراكة مهنية، أو صداقة أو حتى جيرة.
اللحظات الأولى تحمل طاقة أمل واندفاع، بعض العلاقات تنجح في الحفاظ على هذا الوهج، بينما يتسلل الفتور إلى أخرى، فتتحول نقاط الالتقاء إلى نقاط خلاف، ويبدأ كل طرف في التركيز على ما يفرّقه عن الآخر، وربما تتكشف نقاط ضعف، حرص أحد الطرفين أو كلاهما على إخفائها عن شريكه، لكن الحياة لا تترك فرصة للخداع طوال الوقت.
عبدالرحمن بن معاوية
في عام 750م، انهارت الدولة الأموية في دمشق، وسقطت عاصمة الخلافة في يد العباسيين. كان الأمير الشاب عبد الرحمن بن معاوية (عبدالرحمن الداخل)، آخر أحفاد البيت الأموي، شاهدًا على مقتل معظم أسرته، وأصبح مطاردًا في الصحراء، ينتقل بين القبائل هاربًا من سيوف العباسيين.
كانت تلك النهاية بالنسبة له أشبه بصفحة ختامية أتعس من كابوس، أُغلقت على دماء وأطلال، لكن عبد الرحمن لم يستسلم. عبر البحر إلى شمال أفريقيا، متنقلًا بين المخاطر، حتى وصل إلى الأندلس، حيث كانت الفتن تمزق البلاد.
هناك، حوّل مأساته إلى مشروع حياة. جمع حوله الأنصار، وانتصر في معركة المصارة عام 756م، ليؤسس إمارة أموية جديدة في قرطبة، استمرت أكثر من قرنين، وأصبحت منارة للعلم والفن والعمارة.
لقّبه المؤرخون بـ “صقر قريش”، ليس فقط لشجاعته، بل لقدرته على تحويل الهزيمة إلى انتصار، والنهاية إلى بداية حضارة كاملة.
أريانا هافينجتون
وفي التاريخ المعاصر، هناك “أريانا هافينجتون” التي تبلغ الآن 75 عاما، حين تحوّلت النهاية عندها إلى منصة انطلاق.
فقبل انفصالها عام 1997، كانت تعيش أريانا في قلب الحياة السياسية الأميركية، زوجةً لعضو الكونجرس مايكل هافينجتون، ووجهًا مألوفاً في الظل أكثر من كونها صاحبة مشروع مستقل.
لكن الطلاق، الذي جاء وسط ضجة إعلامية، كان نقطة التحوّل الكبرى. خرجت أريانّا من ظل الحياة السياسية لتعيد اكتشاف ذاتها، وتعيد رسم مسارها بالكامل.
خلال أقل من عقد، أسست هافينجتون بوست عام 2005 (كانت تبلغ من العمر 55 عاماً آنذاك)، الذي أصبح واحدًا من أهم المواقع الإخبارية في العالم، ثم أطلقت Thrive Global عام 2016، لتقود حركة عالمية في مجال الصحة النفسية وجودة الحياة.
اليوم، تُعد أريانّا مثالاً حياً على أن النهايات ليست سقوطاً، بل قد تكون القفزة التي تضعك على مسارك الحقيقي.
لماذا تفشل العلاقات؟
وفقاً لعلم الاجتماع، هناك أسباب متكررة لفشل العلاقات:
- اختلاف التوقعات: غياب وضوح الرؤية منذ البداية، وخلال سنوات الارتباط.
- ضعف التواصل: استبدال الحوار بالصمت أو الاتهام.
- الاعتماد المفرط: جعل العلاقة المصدر الوحيد للأمان أو الهوية.
- الضغوط الخارجية: مثل تدخل العائلة، المجتمع، أو ظروف العمل.
لكن يبقى السبب الأعمق وهو غياب الوعي بأن العلاقات تحتاج إلى صيانة مستمرة، لا الاكتفاء بذكريات البداية والتصورات المثالية المنفصلة عن الواقع.
لماذا نتشبث بعلاقات محكومة بالفشل؟
الخوف من المجهول، التعلق بالروتين، الحاجة وعدم وجود رؤية لحياة مابعد الانفصال، والاعتقاد بأن الوحدة أسوأ من علاقة مؤذية، كلها أسباب تدفع الناس للبقاء في علاقات انتهت فعلياً. أحياناً، يكون التمسك بالماضي محاولة لتأجيل الألم، لا لتجنبه، لكن المشكلة أن الألم الذي لا تعالجه، قد يفتك بك!
الوجه المظلم للنهايات
عند الانفصال، يلجأ البعض لسلوكيات انتقامية، مثل تشويه السمعة، كشف أسرار خاصة ، أو تحريض أطراف ثالثة.
هذه التصرفات غالباً ما تعكس ضعفاً داخلياً، وخللاً أخلاقياً وتترك ندوباً وتفجر مشكلات أعمق من الخلاف نفسه.
كيف نصنع نهاية ناجحة؟
- اعترف بالألم دون أن تغرق فيه، دون أن تفقد بوصلتك.
- القطع الكامل مع الماضي المؤذي.
- أعد اكتشاف ذاتك عبر هوايات وتجارب مختلفة.
- لا تبرر ذاتك أو سلوكك.
- لا تنشغل ولا تتسرع بخلق بديل أو علاقة جديدة، قد تؤذيك مرة أخرى وقد تؤذي طرفاً لا علاقة له بقصتك الفاشلة.
- لا تتمسك بإدانة الطرف الآخر، فقد يستدرجك ذلك للبقاء في فلك تأثيره ووجوده، من حيث لا تدري.
طي الصفحة، ضرورة لا رفاهية
إذا كانت النهاية مليئة بالإساءات أو محاولات التشويه، فالأفضل إغلاق كل الملفات:
- لا تحتفظ بذكريات أو وسائط مشتركة.
- لا تسمح لأشخاص بإعادة فتح الجراح.
- لا تبرر قرارك مرارًا.
الحياة الحقيقية تبدأ حين تتوقف عن العيش في ظل علاقة انتهت.
للمستقبل:
لا تدخل علاقة جديدة أو عمل جديد بدافع النسيان، بل بدافع الاكتشاف. واختر شركاء يضيفون لقيمتك وحياتك. اجعل التجربة السابقة درساً، لا لعنة، لا تخجل من التغيير ولا تتسرع فيه.
دعوة للتفاعل:
في الختام أدعوكم القراء الأعزاء، لتشاركونا قصصكم أو قصص تعرفونها عن نهايات كانت بداية جديدة. كيف أعدتم بناء حياتكم بعد الانفصال أو التغيير الكبير؟ ابتسموا، كونوا دوماً سعداء..
أشرف جابر: الكاتب الصحفي ورئيس التحرير
agaber@live.com